×

"البغدادي" يتوب أخيراً في شَرْنَقة جعفر الهدي.

قرأت رواية "الشرنقة" للكاتب جعفر الهدي، خلال يومين، بما فيها من متعة وتشويق تجبرك على عدم التوقف عن قراءتها حتى آخر صفحة، ولما فيها من حقيقة وواقعية، وأيضاً لما احتوت من خيال واسع، تشابكت فيها الأحداث بطريقة سلسة وبحبكة أقل ما يقال عنها أنها رائعة، وامتزجت فيها اللغة الجميلة الراقية التي استطاعت أن تجعلك تعيشها بالصوت والصورة، وبكل التفاصيل الدقيقة، في استدعاء للتراث الديني،  والتعمق في جوانب أسرار التخابر الأمني.  

حسين الحلاج وحسين البغدادي:

كانت هناك مقاربة واضحة ومتداخلة بين شخصية الحلاج "الحسين بن منصور الحلاج" 244 - 309 هجرية، وشخصية حسين البصراوي "البغدادي" المولود في قرية البيضاء، وهي ذات القرية التي ولد فيها الحلاج، حيث ظل محيراً في سلوكه، فهو التقي النقي وفي ذات الوقت الداهية الذكي، وهو اللين الهين، وفي ذات الوقت الخفي غير البيّن، وفي وصف آخر، الزنديق والفقيه والسياسي الطامع في الحكم. "كما جاء في الرواية". 

القاتل المقدس:

بدأت شرارة الرواية، عندما قام بطلها حسين بخنق شيخه الوقور علي الياسري، الذي تتلمذ على يديه، بشهوة شيطانية غريبة أدت نتيجتها للموت، ومن هنا تلبس حسين عدة شخصيات بعد أن نجا من الإعدام بأعجوبة وتدبير مخابراتي، أصبح حسين يعيش أرواح متعددة، مرة بروح الشيخ الزاهد وروح الحلاج ومرة أخرى روح "مؤمل" ضابط المخابرات في النظام، صاحب الصولات والجولات. 

الرواية مليئة بترابط الأحداث والأماكن، وأحياناً يشكك القاريء في حادثة موت الشيخ علي أنها غير صحيحة، فيعيش القاريء حالة من الذهول والتشويق لمعرفة نهاية الرواية وهي تصل في ربعها الأخير. "تُرى هل قتل الشيخ علي ؟ وهل أنا من قتلته ؟" 

الكثير من الإسقاطات التي يمكن أن تتولد حال قراءة الرواية، ومنها الدور الذي يقوم به شيوخ الدين في تغيير مسار المجتمعات وتصل في بعض الأحيان إلى تغيير مسار الدول، فدور رجل الدين واضح في التأثير على المجتمعات ويمكن أن يفتح آفاقاً بكلمة ويمكن أن يغلق أبواباً بكلمة. "فأنا أتلذذ بعبادتي وبارتباطي بالله وكأنني الحلاج، ثم أنفصل تماماً وأتقمص شخصية الضابط مؤمل بكل عزيمة وقوة". 

مسرح الجريمة .. من حدود المزرعة إلى العديد من الدول:

استطاع الكاتب جعفر الهدي بلغته البارعة، وبخياله المتشعب، أن ينسج لوحة مترامية الأطراف لمسرح الجريمة الذي بدأ في حدود مزرعة، وانتهى بعيداً إلى أكثر من قرية ومدينة، فتعددت الأمكنة في الرواية بين قرية البيضاء وبغداد ومكة وإيران، وفي السجن أيضاً، كما كانت خطوط الحوارات متصلة وعلى تماس لا يمكن أن يخطئه حس القاريء، وخصوصاً بين مفاصل أجهزة المخابرات التي تتفنن في الوصول إلى الحقائق بأشكالها المختلفة. 

وفي الجانب الآخر، طرق الكاتب جعفر الهدي باب الكرامات الدينية والمعجزات، ربما في إشارة منه إلى وجود بعض المحتالين الذين يستخدمون الدين في توظيف مثل هذه الخرافات، "وطارت سمعته في بغداد بأنه المسجون الذي لا تمنعه الجدران عن أداء فروضه في المسجد وإلقاء دروسه"، وفي موضع آخر، حين استغل حسين البغدادي حراس السجن بجلب مائدة اعتقدوا أنها من السماء، في دلالة على الوهم الذي يمكن أن يصنعه بعض المدلسين. 

ولم يكتفِ الكاتب جعفر الهدي عند ذلك الحد، وكأني به أراد أن يقول في نهاية الرواية، أن كل رمز وشخصية بارزة تجعل لها خلفاً من بعدها بطريقة أو بأخرى، فها هو الشيخ حسين البغدادي هيأ جابر الذي وشى به سابقاً بعد أن أعلن توبته ليكون خليفته بقصد أو دون قصد، كما كان هو "الشيخ حسين" خليفة للشيخ علي، كما أن فكرة المخلّص كانت حاضرة على الدوام في الرواية. "ألم يعد الحلاج بعد ثلاثين يوماً من صلبه ؟ ألن يعود عيسى المسيح والمهدي المنتظر ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، فلماذا لا يعود الشيخ علي ؟

تباً لروح لا تلبي نداء خالقها بالطاعة:

خلاصة الكلام، البشر يخطئون وكل بني آدم خطاء، وكلنا عرضة لارتكاب الذنب، فنصبح أمام مساومة العقوبة، فإما أن نقبل بالعقوبة، وإما أن نلتف حولها وتتحور إلى أبعد من ذلك، ولكن يبقى باب التوبة مفتوحاً، ويرجع الإنسان إلى سيرته الأولى خالصاً صافياً نقياً، "كفراشةٍ تتوق للخروج من شرنقتها"، تتوق لطعم التوبة الحقيقي، هكذا كان الشيخ حسين البغدادي يقول "كنت أبرر ما أقوم به بأنه ذنب مؤقت سأستغفر عنه بعد أن تثبت توبتي من ذنبي"، وذلك برغم كل ما تكبده من سقطات أودته الهاوية في أكثر من موقف على مدى أكثر من أربعين عاماً.  

صادق أحمد السماهيجي

شخصية أدبية